وجهي .. في مرآة مهشمة ..!

صورتي
حيث تفنى كل نار
هيَ ذي الحياة ُرسائل ٌ.. فيها من الألم الجديد ْ.. العُمر خيل ُمراسل ٍ.. والحُزن ذاك هو البريد ْ..!

الجمعة، 23 ديسمبر 2011

لـُغتي هي وطني ..!

::
::

الــمــرءُ فــكــرٌ والــكــلامُ رســولُــهُ
فـاخــتــر لفكـــركَ مُرسَـــلاً بســــدادِ

إنــي رأيــتُ الفــكـــرَ يــبــدو تـائـهاً
مـــن غير إرشـــادِ الكـــلامِ الهــادي

وطــنـي إذن لغــتي تـشـي بهــويتي
وكــذا لــســانــي تُــرجمــان فؤادي

مــن لــم يــجــد لـغــة إليــها ينتـمي
هـــو مــثـــل مــن لا ينتــمــي لبـلادِ

هو مثل من في الأرض كان مُشرداً
وممـــزقــاً بُـعــــداً عــلــى أبـعـــادِ

أومــا رأيــت الــوردَ يُـقطعُ عرقهُ
يذوي ويــذبــلُ مـؤذنـــاً بفســـادِ؟

فكذا اللســانُ إذا صلمتَ جذورهُ
يغـــدو كـبـيـتٍ دونــمــا أوتـــــادِ

إن الكـــلامَ بـــلا أصـــول لغاتهِ
كالطــفــلِ دون شهــادة الميلادِ

الفكرُ روحٌ واللغاتُ جســومها
فأثــرْ لروحك أجمـلَ الأجســادِ

من غيـرهــا أم اللغـات رأيتها
شرُفــتْ بتــاج تمــلُّكٍ وسـوادِ

فلتبــقَ دون هوية مسخاً إذنْ
ومشــرفاً أبقــى أنا بالــضـادِ


.
،
.



[ رماد كان عطراً ]

::
::

الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

قلبٌ .. تحت الترميم !

::
::
،
صحيحٌ أني خرجتُ من باب الحُب مهزوماً بالانكسار، ولكني خرجتُ منتصراً بالوفاء، كل الوعود والعهود خارج عتبة باب الحب، اصبحت منتهية الصلاحية الآن، فوثيقة الغرام التي وقع عليها عاشقان مجنونان، آلت ملغية، بختم عناق معطوب، وتاريخ لقاء مشطوب، وذانك العاشقان لم يعودا على قيد الـ .. عشق، والجنون الذي داهمه التعقل فجأة، لم يعد عذراً شرعياً .. للشوق!

بعد عام من الانكسار، عام من التشظي، عام من العمر المعتقل في زنزانة عتمة، بدت إرهاصات التعافي، وتباشير التشافي، إذ باخت سورة الحمى التي كانت تستعر في وجهي حولاً أو يزيد، والسعال الذي كاد يلفظ كبدي سنبة من الزمن سكنت ثورته، وشعر رأسي الذي تساقط كحبات خرز تهاترت إثر سلك مجذوذ، شرع يتماسك ويستقيم صلبه من جديد، لم يتبق إلا لون من صفرة عائمة في الوجه، وثقل جاثم على العينين، وفي أواسط الأضلع .. بعضٌ من جراح!

[ وجوهٌ للـ .. إعارة ! ]

حين لذتُ بالغربة بضع ليالٍ خلت، وغيرتُ خرائط عينيَّ، وتركتُ صندوق ذاكرتي في غرفتي المأهولة بالحُزن، وقفلتها بمفتاح النسيان [ المؤقت ]، وفي خضم حديث جذل مع مدير الفندق، ريثما تُعد غرفة ترميمي، قلت له: أإيطالي أنتَ يا أنتونيو؟ . فأجاب مبتسماً: كلا، أنا إنجليزي من أصل برتغالي، ماذا عنك: تبدو إيطالياً أو إسبانياً؟ رددت البسمة إليه وقلت: كلا ابداً، عُمانيٌّ أنا [ ولم أجد في خلدِي أصلاً أنتمي إليه .. غير الحُزن! ].
تحدثنا ضاحكين لبرهة، وختم قوله ساخراً: لا تأخذ معك بطاقة ائتمان إلى السوق، وانتبه من النساء! وكان يلمز زميلته الموظفة في الفندق، ضحكنا قليلا، وصمتنا أكثر، ثم جاءت بطاقات صعودي إلى مستودع وجهي، وجهي الذي استعرتُه لتنساني، وأتناساك.

الوجوه اقنعة، قابلة للإعارة والاستعارة، ومقياس دفء القلب، أبرع من يستطيع تفصيل مقاسات قناع وجه ملائم، الحب له قناع مسوم، وللحزن قناع يشبهه كثيراً، ولكنه مقلوب!

فأي وجه تراني استعرتُ، يوم هربتَ مني فاختفيت، وفررتُ إليك ولم أجدك! أي وجه تراني استعرتُ يوم غادرت محطاتك، لأسافر في أي قطار يحمل كرسياً شاغراً لجراحي! ومشحوناً بكل شيء .. إلا منك!

تشارك الليل ولبسي لون الظلام، لم يخالفهما .. إلا وجهي .. وأصابعي!

[ أنا .. قيد الصيانة ]

تجولتُ هناك كثيراً، في الشوارع، في الأزقة، في الأرصفة، وملأتُ عينيَّ من وجوه المارة، علهم يحجبون عن قلبي وجهك، كانوا يرونني وكاني كائن من خارج حدود إلفهم، وكنتُ أراهم وكأني أعرفهم جميعاً !


لا تخشَ عليَّ ولا تقلق، أستطيع تدبر صيانتي بنفسي في غيابك، أو حتى يمكنني الاستعانة بصديق قديم، وصديق آخر جديد، يفتح ذراعيه لأجلي، إن كانت ذراعاك قد قصرتا عن تدفئتي، وطالتا في تجميدي!

لا تبتئس، إن رايتني مكسوراً يوماً، ولم تحرك أصابعك لشفائي، فقلبي أنا الآن .. تحت الترميم !
،
::
::

السبت، 19 نوفمبر 2011

لن يتقد حُبٌّ .. بالصمتِ قد أطفأتَ شمعَه !

::
::
،
[ كُنتَ جُرحاً جميلاً .. وانتهى ]

حينَ رأيتك آخر مرة، لم تكن أنتَ أنت الذي أحببتك، وكأن عينيك اللتين أسرتاني مقيداً في هواك قد نُزعتا من وجهك، ورُصعتَ بعينين أخراوتين، لا تشبهانك في شيء، كما لو كانتا ليستا لك، وليستا لي! حين سمعت صوتك آخر مرة، كان أبرد من أضلعي التي جمدها صمتُك، ودثرها بالجليد جفاؤك!

حين آثرتَ الغياب، واستكنتَ إلى حياةٍ لا تحمل وجهي، فقدتَ روحك، وسقطت منكَ آخر أزهار الياسمين التي أودعتُها كفيكَ الصغيرتين ذات نهار، ولم يعد وجهك يبض نوراً يثل عرش الشمس وينزع عن جبينها تاج الدفء وعن يديها صولجان الضياء.

حين تأوي لنومك باكراً كل ليلة، وتغرق في سباتك الطويل تاركاً لي جُرحاً راسياً في موانئ جفني، لم يعد يباغتك الشوق مثلي، ولم يعد يؤرقك الحنين .. مثلي !

حين أحببتك، مزقتُ تذاكر أسفاري، لما رأيت في وجنتيك الزاهرتين آخر محطاتِ قطاري، وألقيتُ من يديَّ زادي وتزودتُ بك، وخلعتُ معطفي لأحضنك فيه، لينشب عطرك في قميصي أظافره، يقسم عليكَ ألا يوماً تغادره ..
وهأنذا، أتخذ من عصفِ الرياحِ قارعةَ، ومن انكساراتي رصيفاً، ومن جراحك جلباباً لا يقي حر صيفٍ ولا قر شتاء ..!
جعلتُك تغفو في دثار قميصي، وجعلتني أنزفُ .. عارياً منك !

حين نسيتَ نفسك، وتناسيتني معك، اغتلتَني بصمتكَ المأجور بالبرد، حين وقفتُ على بابك، أنتظر أن تبتسم في وجهي، وتمد إليَّ يديك لتمسح أحزاني، لتعانقني، لتخبرني كم تحبني، كم تشتاقُ إليَّ، كم هي الحياةُ كئيبة دوني .. كنتُ أنتظر، وكان انتظاري أطول عمراً من حُبك، وأقصر بكثيرٍ من .. يأسي !

لا تقلق، لستَ بحاجة لأن توهمني بسطوة ذاكرتك، وأنك تقيم عليَّ مآتم حزن، صدقاً، لستَ بحاجة لأيٍ من هذه الأعذار .. لأنك لو كنتَ صادقاً فيما تدعي، لوجدتك ترتمي لذراعيَّ وتطوق أضلعي .. حين طرقتُ بابك يوماً .. وقلتُ: أحبك ! لوجدتُك تبحث عن عينيَّ في المرايا، عن وجهي في أبراج السماء، عن عطري في الشوارع والأزقة .. عن صوتي في عتمة الليل .. عن أصابعي حين يغمرك البرد .. وتبحث عن صدري تلقي فيه أدمعك .. وابتهالاتك !

لستَ بحاجة لأن تمثل أدوار الحب بعد اليوم، لأني اعتزلتُ مسارحك، وسأمضي .. ولن أعود إليك .. أبداً !
،
::
::

الجمعة، 18 نوفمبر 2011

أنا .. في أسبوع [ 3 ]

::
::

الــيــــوم: ثمانية عشر ألماً
الأسبوع: ستة وأربعون جُرحاً
الـشــهـر: نوفمبر الذبول
الــســنـة: الحادية عشرة بعد ألفي منفى
،
[ خانتكِ عيناكِ ]

اليومَ أنهي، فصولَ الجُرحِ في كبدي، وأفك أسْر هواكِ، من قيود يدي، عليكِ أوصدُ باب العشق في صدري، وأنزعُ وجهكِ .. من عينيَّ  للأبدِ !

خانتكِ عيناكِ
يوم اغتالني، صمتُكِ المأجورُ .. بالبردِ !
وداعاً ، ليسَ للحب ولكن .. وداعاً لكِ .. سائرَ الأمدِ !

::
::

الثلاثاء، 18 أكتوبر 2011

والعطر عنده وفا .. أكثر من اصحابه ..!

::
::

أحبك، أيها البحر! هكذا نبست شفتاي وأنا أصافح خد البحر بعينيَّ جيئة من مقر العمل وذهاباً إليه. مع البحر، ومع من يشبه البحر في لغتي (ابتسامة مكر)، أشعر بأن وصائل أضلعي تستحيل أزرار قميص تتفكك واحداً تلو آخر، أشعر بكائن ما يتضخم في جوفي، ولكنه شيء لا يشبه الألم في شيء، ولا يحمل وجع الانكسار ..!

أهو الـ .. حُـب ؟ :)

في طريقي إليك
أحب الطريق
لأن الطـريق
يقودُ إلـيــك ..!

أحب النهار
أنا حين أصحو
عليها يديك
وتشرق شمسي
بدفء الضياء
على راحتيك

أحب الظلام
أنا حين أغفو
أغمض جفني
على مقلتيك
وأسهر قربك
لا من سهادٍ
ولكن .. حبيبي
خوفاً عليك ..!

أحبك
حين أمرغ خدي
في وجنتيك
وكفي
تداعب وجهك
ووجهي
بدءاً برأسك
يطبع قُـبَلا
إلى قدميك
وهذي الأصابع
تلثم شعرَك
وكلتا عيوني
أسرى لديك
وألقي شفاهي
بعد عناقٍ
طويلٍ طويل
في شفتيك ..!

رغم أني لم أحرز تقدما في استقرار كياني بعد، إلا أني اشعر بأن ثمة حس بالانتصار يغمرني، ربما جراء كسب مزيد من الثقة في النفس بفعل تفاعلي مع المحيط، ربما لأني اشعر اينما ذهبت أن الأعين التي تحمل صورة وجهي تصنع لي تقديراً فورياً، ولونا من ..الاهتمام (سأبقي التفاصيل سراً .. / يغمز )، أو ربما لأني للحظة ما، تذكرت دستور [ عصر الإرهاب ] الذي اختلقته لنفسي، والذي كان من ضمن بنوده بند فحواه أنه ليس هناك شيء مهم! ليس هناك شيء لا يمكن التخلي عنه، ليس هناك شيء لا تستطيع أن تعيش بدونه. اما بند [ الموت ] فيه، فمختصر بعبارة: [ إذا تبسم الموت في وجهك، فكل ما عليك فعله هو رد الابتسامة ]، فليس مهما متى يأتي الموت وكيف، لأني لا أعيش يومي، بل أعيش نفسي، وهكذا أصبح خارج نطاق الزمن، خارج حدود الموت، إنه الخلود!

كم مرة يا ترى، حملني اشتياقي إليك، ومن كل فج عميق أتيت، لألقي حر حنيني عليك! البارحة كنتُ هناك، أطوف حول مرقدك، أتقصى عطرك، وأقفو وقع قدميك، ثم أذوي بعيداً، فلم تبكِ عيناي لأني، تركتُ عينيَّ لديك!

وحين امتد الغياب بك، واستطال الشوق بي، أخرجتُ من جيبي قارورة عطر [ جادور ] صغيرة، فنفحت أريجها في رئتيَّ، وكتمتُ أنفاسي ثم .. مضيت!

لقد كان عطرك .. يوم احتراقي .. أشد وفاءً منك إليك!
::
::

الجمعة، 14 أكتوبر 2011

أنا .. في أسبوع [ 2 ]

::
::
الــيــــوم: أربعة عشر ألماً
الأسبوع: واحد وأربعون جُرحاً
الـشــهـر: أكتوبر الأسى
الــســنـة: الحادية عشرة بعد ألفي منفى

[ عامٌ على الموتِ المدفون في أضلعي ]
قبل عامٍ من الآن، لم أكن أدرك أن الشمس التي تغيب، لن تكون الشمسَ التي تشرق، ولم أكن أعي أني على موعدٍ مباغتٍ مع الموت، في الوقت الذي كنتُ فيه معتكفا في محرابِ الأمنيات، أتلو على الحب الصلوات، في الوقت الذي كنتُ فيه أتحرق شوقاً لغدٍ أوسد فيه حبيباً أضلعي، وأفجر في عينيه كل الحنين المأسور في أنفاسي، وأطوقه بيدي تطويق حلقات السلاسل، خشية أن أفقده برهة من عمر!
لم أكن أعرف حينها، أن الموتَ يأتي في الوقت الذي نشعر فيه أننا على الحياة أقدر، لم أكن أعرف أن الدعوات التي نلح فيها ونصر عليها تكون عرضة للاغتيال أكثر! لم أكن أعرف أني حين كنتُ أتشبث بأرجل السماء أستجدي حُلما وحباً، قد كان آنذاك قبري يُحفر!
أذكرُ جداً كيف استعجل الشتاء موسمه من بعد عناقنا الأخير، ودفء كفيه الموشوم في صدري أنساني اقتناء معطف يقيني جليداً يوشك أن يلقي صقيعه في كبدي، وأنا الذي كنتُ قد بعت ملابسي منذ اتخذت جفنيه لباساً، ومحوتُ من دفاتر تاريخي كل الوجوه والأسماء مذ غدا وجهه إنجيل ذاكرتي واسمه تراتيل صلاتي، وصممت عن كل مزامير الحناجر وأنغام الألسن يوم استحال صوته أنشودة قلبي ونبض شراييني.. أذكر جداً، أني نسيتُ كل تعليمي وفهمي، يوم طلب مني رسم خريطة الكون، فرسمتُ في صفحتي عينيه!
في صباح الخامس عشر من أكتوبر، صحوتُ من نومي في وقتٍ على غير عادة، أتراه من جراء تضخم الحنين الذي خنق أنفاسي؟ أم أن السماء كانت تشفق على نائم مثلي توسد حلمه ليلا ليفيق على موته نهارا، فأيقظتني في حين غرة .. على كفني!
أذكر جدا، كيف كان انقطاع الاتصال، يقطع أوصالي، أذكر جدا، كيف شعرتُ بفؤادي يتفجر في جوفي، وتتشقق رئتاي وكأن الهواء شرع ينفد كما الوقت، أذكر جدا أني انقطعتُ عن الوعي، وتجمد الاحساس في أوردتي، وسقطتُ مُدلها لا أدري أيهما تداركني أسرع، الصراخ أم البكاء!
مازلتُ إلى الآن غير قادرٍ على سرد ذكرى الموت تلك، فكلما توغلتُ في الادكار أجد فرائصي ترتعد أكثر، وأصابعي ترتعش أكثر أكثر، أهو الجرح مازال ينزف لم يترفق به الإبلال، أم هي طعنة الموت لم ينتزع خنجرها بعدُ من صدري!
أذكر جداً، كم كنتُ أحبك، كم صد عشقي لعينيك الموتَ عن عيني، وكيف اتخذتُ من وجهك مجنأ وترسا يقيني نبالا مسننة نحو فؤادي مسددة، وكيف جعلتُ من عطرك دواءً أستطب به فأريقه على جسدي ليخمد سورة الحمى التي لازمتني منذها وإلى الآن!
لم أكن أصدق، أن وجهاً كوجهك، يمكن أن يتخطفه القدر من بين أصابعي، لم أكن أصدق، أن عينيك اختارتا أن تبصرا صبحاً لا يكون في قسماته وجهي، لم أكن أصدق، أن توصد أبوابك على روحي التي سميتها باسمك، وخضبتها برائحتك، وألبستها شفتيك، وأنا الذي بقيتُ أطرق جدران صمتك بصوت من أنين، وأذرفك شوقاً في أدمعي التي كسرت ضلع السماء من وجع الحنين!
كنتُ أراكَ روحاً وحدها خلقها الله من فردوسه، وكذبتُ فيك كل نبوءات السماء، وأبقيتُ حبك قرآنا أتلوه في محراب حزني كل ليلة، وجعلتُ الوفاء لك زاداً لأيامي، علك يوماً تتذكر وجهي، فتحملك خرائط الشوق إلى أضلعي، فطالت الأيام، وازدادت الليالي عتمة .. فاشتد لهيب احتراقي فيك، وامتد طريق غيابك بك!
إلا أنت .. لن تكسرني، تلك كانت عقيدة حبي لك، فكيف أعدت إليَّ قلبي من يديك به انكسار؟!
قد يمنعني التشظي من مواصلة إراقة الحبر الآن، فللعينين حبرٌ آخر .. يوشك أن يُراق!
::
::

الجمعة، 7 أكتوبر 2011

أنا .. في أسبوع [ 1 ]

::
::
الــيــــوم: سابع ألم
الأسبوع: أربعون جُرحاً
الـشــهـر: أكتوبر الأسى
الــســنـة: الحادية عشرة بعد ألفي منفى

أتراه قد مضى وقتٌ طويلٌ منذ آخر مرة عانقت عيناي وجهي في المرآة؟ لستُ أدري، فما أنا من الذي يجيدون حساب العمر وقياس حجم التاريخ، ولا أبرع في الاحساس بدقات الساعة ولا بلسعات عقاربها، فمازال وجداني مركوناً خارج نطاق الزمن، لدرجة أشعر فيها أن رحى الدهر قد أقصرت عن الدوران، أو بالأحرى، أن عمري ما انفك قيده موثقا في إحدى زوايا الماضي المعتمة التي تتشابه في ظلمتها .. كل الأشياء!
الوقتُ يمر سريعا جداً في أيامي الأخيرة، ربما لأن الزمن لم يتمكن بعد من اختراق جدار الأمنيات التي عجز الدهر عن جعلها تشيخ وتحني ظهرها. نعم، هذا أنا الذي لا يحسب عمره بالأرقام، إنما بالأحلام .. والوجوه! فليس عجبا ألا تمسني سياط الوقت إلا .. بسوط الحنين!
منذ أن بدأت العمل، وأنا أقيم مأتماً لحريتي كل ليلة، وشوق القفول إلى وطني، إلى داري، غرفتي، مخداتي التي عصرتُ فيها ألوان حزني، ونسائم العشب الأخضر، وعبير النرجسات السبع، وشذى البرتقال وأريج الياسمين، وشموخ النخيل الباسقات، ورائحة العطر الذي تمخض عن تراب بللته دموع السماء غداة رحيلي، كل هذا وأكثر، يطرق في أضلعي دسار الصبابة، ويقلد يدي سيفا يقدد الأيام إربا، لأجدني يوم الأربعاء في قوافل العائدين إلى الأوطان، ولكن بأجنحة أكبر، من التحنان!
أفتقدني هنا، ولا أراني هناك كما أراني هاهنا، ويزعجني أن يسرق الوقتُ مني أنس كتبي ودفاتري، ورغم أني أحاول جاهدا مواصلة القراءة في أحايين الفراغ أثناء فترة العمل، إلا أن ذلك لم يروِ ظمئي وتعطشي لمعانقة الأحرف، وكل هذا الانزعاج، يثلج ناره أمل بالاستقرار قريباً، وإن غداً لناظره قريبُ.
أنا في هذا الأسبوع الأربعين على التشظي، رغم كل الانكسارات، رغم كل الأحلام الذابلة، مازلتُ أقف، ومازلتُ أسير، ومازلتُ .. أبتسم :)
أيها الحُزن .. شكراً لك .. لأنك وحدك تطبع في وجهي قبلة دفء، في الوقت الذي تختفي فيه وجوه وعدت بالحياة .. فأوفت بموت!
::
::

الجمعة، 23 سبتمبر 2011

أدب الكاتب / ابن قتيبة الدينوري

::
::
يُعد كتاب [ أدبُ الكاتب ] لمؤلفه [ ابن قتيبة الدينوري ] أحد الكتب الأربعة التي يعتبرها كثير من الأدباء والمؤرخين أنها رأس كتب الأدب العربي، كما يحسب مؤلفه [ ابن قتيبة ] من الموسوعيين العرب الذين تبحروا في علوم عديدة كاللغة والأدب والتاريخ والسياسة إضافة إلى علوم الفقه والحديث، وقد عاش ابن قتيبة في بلاد الرافدين خلال القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي.
وإذا ما أردنا أن نسم كتاب [ أدب الكاتب ] بلغة العصر، فمن الممكن أن نطلق عليه اسم [ كتاب الثقافة العامة ]، فقد جمع ابن قتيبة فيه ما يعتقد أنه على كل كاتب في ذاك العصر أن يكون مطلعا عليه ومُلماً به، من علومٍ ومعارفٍ وأساليب كتابية ولغوية، أي أنه –باختصار- الثقافة العصرية العامة التي يجب أن يتحلى بها كل كاتب آنذاك.
والكتاب –كما ألمعنا- عبارة عن معلومات ومعارف متنوعة شملت تصحيح ما يخطئ الناس في قوله أو لفظه أو كتابته، وأيضا في خلق الإنسان وأسماء الأعضاء، وفي خلق الحيوانات وأسمائها وفروقها، وكذلك في الأطعمة والأشربة، وفي اللباس والآلات والنجوم والأنواء والفلك.
وحسب تقييمي لهذا الكتاب، فأنا لا أراه يرتقي لأن يكون في مصاف كتب الأدب الأربعة الأولى، وذلك من جهتين، أولهما أن نفعه أقل بكثير مما وجدته في كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وثانيهما هو أن كثيراً من المعارف التي احتواها الكتب قد عفَّى عليها الدهر، فهي ثقافة محدودة بأقواس مدارك تلك الحقبة من الزمن، ولذا فكثير منها قد لا يكون ذا فائدة لكاتب عصرنا هذا.
وقد قرأتُ في أدب الكاتب قول ابن قتيبة أن المسكين أشد فاقة وعُدما من الفقير، ولكني وجدتُ أبا منصور الثعالبي في كتابه [ فقه اللغة ] يُخطئ قول ابن قتيبة ويدعو إلى أن الفقير أشد فاقة وبؤسا من المسكين، وألفيتُ هذا الموضوع محل خلاف بين بعض علماء اللغة، فمنهم من يجعل الفقير أسوأ حالا من المسكين وآخرون يخالفونهم، ولكن بعد أن ذكر ابن منظور في [ لسان العرب ] أدلة الفريقين رجح القول الذي يقضي بأن الفقير أسوأ حالا من المسكين.
وختام القول، أني أرى أن أدب الكاتب كتابٌ جيد، ولكن لا أعطيه أولوية في القراءة، بخلاف كتاب البيان والتبيين للجاحظ، هذا مع الإشارة إلى أني لم أقرأ كتابي الكامل للمبرد والأمالي للقالي بعد، وسأقارن بين الكتب الأربعة حين أفرغ من قراءتها جميعها.
::
::

الاثنين، 12 سبتمبر 2011

سيد الغزليين / عمر بن أبي ربيعة

::
::
عمر بن أبي ربيعة المخزومي القرشي، الشاعر الذي نال لقب [ سيد الغزليين ]، هو شاعر عربي مسلم ولد في العام الذي توفي فيه خليفة المسلمين الثاني، عمر بن الخطاب، أي في العام الثالث والعشرين للهجرة.
نشأ عمر بن أبي ربيعة في الترف وشب على غضارة العيش وسعته، فقد كان أبوه من كبار أغنياء قريش وأثريائها. ونظرا لهذا الثراء، عاش عمر عيشة مترفة قضى مجملها مترفها متنعما، ويمضي كثيرا من أيامه في مجالس اللهو والطرب، وكانت مهنته هي الغزل ووصف النساء، فبرع في التغزل والتشبيب وأتقن وصف الأحداث وسرد القصص والوقائع التي مر بها بلغة شعرية فصيحة وألفاظ جزلة.
يصُبُّ جل شعره في الغزل وذكر لقاءاته بمعشوقاته الكثيرات، وكان يزعم أنه يحب كل امرأة يتغزل بها، ولكنه سرعان ما يتغير حبه إلى امرأة أخرى بعدها، وكما قال:
                      سلامٌ عليها ما أحبت سلامنا ... فإن كرِهَتْهُ فالسلام على أخرى
أما عن انطباعي الشخصي، فإني لم يرُقني شعر عمر كثيراً، إذ أن مجمل غرضه متكرر في كل شعر ينشده، فليس له وجهة شعرية غير الغزل وذكر محاسن محبوبته وسرد قصته مع كل معشوقة مرت به في حياته، وهذا على عكس ما قرأته في شعر مجنون ليلى قيس بن الملوح الذي تشعر بشعره يجري في مساري دمك، لشدة الحزن والمرارة وصدق المشاعر التي كان يكنها لحبيبته الوحيدة، ليلى العامرية، وأيضا هناك جميل بن يعمر الذي يلقب بجميل بثينة الذي عاصر عمر بن أبي ربيعة، إلا أن جميل كان عفيفا مخلصا في حبه لبثينة.
ذكرت أخبار كثيرة أن عمر اعتزل الغزل بعد أن تقدم به العمر، وروي عنه تنسكه في آخر عمره شأنه شأن كثير من الشعراء الذين أفحشوا في غلواء شبابهم ثم أقصروا في مشيبهم، كجرير وأبي نواس وغيرهم.
من أشعاره الجميلة، قوله:
لو بَصَقَتْ في البحر والبحرُ مالحٌ ... لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا
وأيضا:
إذا أنتَ لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا
ومن أشعاره الشهيرة قوله:
أيها المُنكح الثريا سهيلا ... عَمرَكَ اللهَ كيف يلتقيانِ
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني
والآخر:
أشارت بطرف العين خيفة أهلها ... إشارة محبوب ولم تتكلمِ
فأيقنتُ أن الطرف قد قال مرحباً ... وأهلا وسهلاً بالحبيبِ المُتيم
ختاما، شعر عمر ممتع في بعض قصائده وأبياته، إلا أنه مجملا لم يكن مشوقا لي بالقدر الكافي الذي أحسسته أوان قراءتي ديوان مجنون ليلى، فالفارق بينهما واسع المدى، ربما لأني أميل إلى عاطفة الحزن أكثر من عاطفة العشق والهوى، وتؤثر فيَّ الانكسارات أكثر من الانتصارات، كما هو الحال في شعر قيس بن الملوح.
ولكن، يبقى الحزن سيد المشاعر الإنسانية وأكثرها صدقا، وكما قال عمر:
إن الحزين يَهِيجُهُ ... بعد الذهول بُكا الحزينِ
::
::

الأحد، 28 أغسطس 2011

العقلانية ، فلسفة متجددة / جون كوتنجهام

::
::
فرغتُ اليومَ من قراءة كتاب [ العقلانية ، فلسفة متجددة ] للكاتب الإنجليزي [ جون كوتنجهام ]، الكتاب يقع في عدة فصول معروضة في قرابة 170 صفحة، تحدث فيها كوتنجهام عن بدايات العقلانية الغربية في الفلسفة اليونانية، ثم انبلاج صبحها في عصر النهضة الأوروبية وعلى يدي أبي الفلسفة الغربية الحديثة، الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، مرورا بالفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا والألماني لايبنتز وإيمانويل كانت وجورج هيجل ثم انتقالا إلى العقلانية الحديثة وترابطها بمجال الدراسات اللسانية عند الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي.
وخليق بالقارئ أن يميز بين العقلانية كأسلوب فكري وبين المذهب العقلي، فالعقلانية هي استخدام العقل في كافة تصاريف الحياة كمبدأ وقاعدة انطلاق وتمييز، ولكن المذهب العقلي يختلف عن العقلانية من حيث إنه يقوم على أساس زعم وجود معرفة قبلية [ فطرية ] في العقل البشري سابقة على التجربة والحواس، ولذلك فإن المذهب التجريبي يضاد المذهب العقلي، إذ ينفي التجريبيون وجود معرفة قبلية أو فطرية في العقل البشري بل إن المعرفة تنتجها التجربة والحواس، فالتجريبيون عقلانيون من حيث أسلوب التفكير ولكنهم أعداء للمذهب العقلي، وقد شهدت أوروبا صراعا شديدا بين مذهبي العقل والتجربة، وخصوصا بين مفكري إنجلترا التجريبيين ومفكري فرنسا وألمانيا العقليين، وقد تمكن المذهب التجريبي من التفوق على المذهب العقلي في القرون الأخيرة لولا أن الفلاسفة العقليين دافعوا باستماتة عن معتقداتهم بوجود معرفة فطرية سابقة للحواس، ورغم سطوة المذهب التجريبي إلا أن العقليين عادوا في القرن الحديث يواجهون التجريبية ولاسيما اعتماد نظرية النحو التوليدي واللغة العالمية لنعوم تشومسكي في القرن العشرين التي تزعم بوجود مركب فطري لمبادئ اللغة في العقل البشري قبل أن يتعلم المرء اللغة.
إذن فالصراع بين العقليين والتجريبيين مستمر، رغم محاولة كثير من الفلاسفة العقليين الدفاع عن مبدأ الفطرية أمام سهام النقد العنيف التي وجهها لهم التجريبيون وخصوصا جون لوك وديفيد هيوم، وها هو [إيمانيول كانت] يحاول الدفاع عن أبراج المذهب العقلي المنهارة فاجتهد في التوفيق بين العقل والتجربة ليخلُصَ إلى أن المعرفة هي اتحاد بين العقل والحواس، فيقول: "لا يمكن لقدراتنا العقلية والحسية أن توفر الأحكام الصحيحة موضوعيا بشأن الأشياء إلا باتحاد بعضها من بعض".
الكتاب يحوي بعض المقاطع المشوقة، إلا أنه في مجمله لا يشجع على مواصلة قراءته وذلك طبيعي بحكم أنه من الصعب جدا اختزال الصراع العقلي - التجريبي في 170 صفحة، ولذلك قد يجد القارئ بعض الصعوبة في فهم ما يحويه النص وما ترمي إليه أقوال الفلاسفة من كلا الطرفين.
من الاقوال التي دونتها في مذكرتي لهذا الكتاب، قول أرسطو: "لا يوجد في العقل ما لم يكن في الحواس من قبل"، وهو قول يدعم التجريبية وضد العقلية لأول وهلة، ولكن كتاباته الأخرى تشير إلى اعتقاده بأن الحواس لا يمكن أن تؤدي وظيفتها ما لم يكن هناك استعداد ذهني مسبق.
وقول ديكارت عن صدمته بالأكاذيب التي كان يعتقد في طفولته بأنها حقائق، وأنه اضطر إلى هدم كل أفكاره وبنائها من جديد.
وقول باروخ سبينوزا أن الناس يعتقدون أنهم أحرار لأنهم يشعرون بأفعالهم لا بالأسباب التي تتحدد بها أفعالهم.
وتفريق لايبنتز بين حقائق العقل وحقائق الواقع؛ فحقائق العقل ضرورية ونقيضها محال، وحقائق الواقع محتملة ونقيضها ممكن.
وقد حاول لايبنتز الرد على نقد جون لوك للمبدأ الفطري في المذهب العقلي وقال بأن الحواس تعمل كمثيرات للمعرفة القبلية، وأضاف إلى مقولة أرسطو الشهيرة: "لا يوجد في العقل ما لم يكن موجودا في الحواس من قبل" عبارة: "إلا العقل نفسه".
ونجد قول جون لوك وهو من أرباب المذهب التجريبي أن "الإنسان يولد لوحا أملساً" أو صفحة بيضاء وأنه يستمد المعرفة من التجربة.
كما حط ديفيد هيوم من شأن العقل وقال بأنه "عبدٌ للعواطف"، وهذا يشير إلى تطرف هيوم في نقد المذهب العقلي كما هو معروف عنه بأنه شيخ الشكاكين، حيث رد على مبدأ [ الدوبيتو ] لدى ديكارت القائل: "أنا أشك إذن أنا موجود"، قائلا: "أنا أشك بأني أشك".
وينتقد أحد الفلاسفة المحدثين العلم الغربي وهو بول فيرديناند بقوله: "إن العلم الغربي ليس إلا آيديولوجيا مهيمنة، إنه تقليد من التقاليد الكثيرة، وليس له حق خاص في المطالبة بقبولنا له"، ويضيف: "على المرء أن يقرأ الآيديولوجيات كما يقرأ الحكايات العجيبة التي لديها أشياء مشوقة تقولها ولكنها تحتوي على الأكاذيب الفظيعة أيضا".
هذه إلماعة عن هذا الكتاب اختزلناها في هذه المقتطفات، ولأكون صريحا فأنا لا أثير حماسة القارئ لقراءة هذا الكتاب إلا إذا كان من أصحاب الاختصاص أو باحثا في مسائل المذهب العقلي وتطوره، فهو ليس ممتعاً ولا مفيداً بما يكفي لأجعله من كتب سطح الطاولة.
وأختم بمقولة الفيلسوف لودويج فنجشتاين إذ يقول: "ما لا يمكن التحدث عنه يجب إهماله في صمت".
::
::

الجمعة، 26 أغسطس 2011


أيــا رمضانُ قد أزِف الرحيلُ ... فــيا ليتَ الليالي تستطيلُ
ويا ليتَ التــلاقي دام حتى ... إلى الجناتِ كان لنـا سبيــلُ
فيا رمضان لا تُطِلِ التنائي ... وكفكف أدمعاَ حَزْنى تسيلُ
عسى لــقياك تدنو قــبــل يدنو ... فراقٌ للحياةِ فلا مُقيــلُ
ويا رباه اغفــر كل ذنبٍ ... فدون رضاك لا شيءٌ جميـلُ
[ رماد كان عطرا ]
وتـنـازعَ الحُــكمــاءُ فــي أسـرارها ... فــبأيِّ سِـرٍّ سُــمِّيت حــوَّاءُ
وتخاصموا فـالكــلُّ مُبــدٍ رأيهُ ... وبــدت مسائــلُ ما لهــنَّ لـقــاءُ
حتى أتـت غيـداءُ يقطـعُ حُسنها ... كُـلَّ الخلاف وأُرتِــجَ الحُكماءُ
وهناك صاحوا صيحة صداحة ... حَوَتِ القلوبَ لذا اسمُها حوَّاءُ
[ رماد كان عطرا ]

الاثنين، 22 أغسطس 2011

ديوان الصبابة / ابن أبي حجلة


أية أمة يزخر تاريخها بأخبار العشق والعاشقين، وجاشت أيامها بحكايا صرعى الحب وقتلى الهوى، فانتشر في ربوعها جنون الشوق والغرام، واستعرت في لياليها سَورة الوله والهيام، أية أمة ترى ذاقت كؤوس الصبابة أكثر من أمة العرب التي تزاحم فرسان الهوى في أرجائها، وتراكم شهداء العشق في بيدائها، فكانت حروب المستهامين على رأس كل سنان، وأشعار المغرمين تُغنى بكل لسان.

بعد أن قرأتُ ديوان الصبابة لابن أبي حجلة، ازددت يقينا بأن أمة العرب من أكثر الأمم عطفا في الجوانح، وأوسعها رقة في الفؤاد، وأفسحها لينا في القلب، فمن يجد لي أمة من الأمم دانت بدين الحب غير أمة العرب إذ قال قائلها:
الحب ديني فلا أبغي به بدلا ... والحسن منك مطاع جار أم عدلا

وقال غيره:
إنِّي أدينُ بدينِ الحبِّ ويحكمُ ... واللهُ قد قال: لا إكراهَ في الدَّينِ!

وقال آخر:
أدين بدين الحب أنى توجهَتْ ... ركائبُه أرسلتُ ديني وإيماني

فمن لي بأمة جعلت من الحب دينا؟ ونثرت في ربوعها العشقَ ورداً وياسمينا؟

ديوان الصبابة، لمؤلفه ابن أبي حجلة التلمساني الذي عاش في القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي، وهو أديب ومؤرخ ومصنف ولد في تلمسان بالجزائر وتوفي في القاهرة. يقع ديوان الصبابة في فصول عديدة، تحدث فيها عن الحب وأسبابه وهل هو اضطراري ام اختياري، وذكر مراتب الحب وأنواعه، كما ذكر سمات الحسن والجمال، وأخبار العشاق والمحبين، وأيضا ذكر ما أصاب المستهامين من جنون ومرض بل وأودى بهم عشقهم إلى الهلاك والموت، كما ذكر عن الحب عن طريق الصوت والصورة وهل يكون الحب من أول نظرة، كما أورد حكايا الشوق والعتاب والغيرة والوشاة وغيرها من قصص العشاق ونوادرهم.

في حقيقة الأمر أني لم أعرف يوما أمة تنطوي لغتها على أكثر من 16 نوعا أو اسما أو مرتبة للحب، فهناك الهوى ثم العلاقة ثم الكَلَف ثم العشق ثم الشغف ثم اللوعة واللعج ثم الجوى ثم التبْل ثم الدلَهُ ثم الهيام ثم الصبابة ثم الشوق ثم الغرام ثم الوله وهو ذهاب العقل من شدة الحب!

ومما أعجبني ذكر بعض الشيوخ الذين إذا قيل لهم ان ابنكم قد عشق تجدهم يحمدون الله، فإذا سُئلوا عن ذلك قالوا: من عشق رق قلبه، ولطُفت معانيه، وملُحت إشارته، وحسُنت عباراته، فواظب على المليح وترك القبيح. كان هذا حال الحب عند العرب لدرجة قال فيها شاعرهم:
وما الناسُ إلا العاشقون وذو الهوى ... ولا خير فمن لا يحب ويعشقُ

وأجدني يصعب علي أن أنتقي مقتطفات من مليح الشعر الذي يفيض به ديوان الصبابة، فكل بيت له جماله الذي يجعله يشرئب برأسه ويبأى بنفسه، فلا أملك إلا أن أقول بأن هذا الديوان يجب ألا يفوت أي أديب ولا ينبو عن يدي أي عاشق بسهم الغرام أصيب، ففيه من الحُسن ما يجعل الشمس كسيفة أمامه، وحوى من اللذة ما هو أشهى من سلاف المُدامة.

ورغم كل الملاحة المتأقة في هذا الديوان، إلا أن لدي ملاحظة حول ورود بعض الألفاظ الجنسية وبعض الكلمات الواصفة بعض مناطق الجسد المستورة –والحقيقة أني وجدت هذا المنحى في عدة كتب أدبية ومنها البيان والتبيين للجاحظ أيضا- ورغم أن ورود هذه الكلمات قليل ولا يؤثر في روعة الكتاب إلا أني أحبذ أن يبتعد الكتاب عن ذكر مثل هذه العبارات، فهي ألفاظ يمكن أن تقال بين الخاصة أو أولي القربى من أخلاء وأحباء، لا أن يتلفظ بها أمام العامة وأن يُخط بها في الكتب مهما كانت معروفة ومفهومة، فهي ألفاظ لا أحبذ جريانها على الألسنة أمام من هب ودب وولج وخرج، بل لها أوقاتها وأشخاصها المخصوصون بها، فلا ننسى أن الخط يبقى زماناً بعد كاتبه وصاحب الخط تحت الأرض مدفونُ، ولا تكتب بخطك غير شيءٍ يسرك في القيامة أن تراه.

وختاماً، أنصح بقراءة هذا الكتاب لمن له اطلاع بالأدب واللغة والشعر، وله عقل ناضج وقلب رحب، ففيه من الأشعار والأوصاف ما يَحسُن حفظها وتعلمها لترقق القلب وترطب اللسان وتدفئ الوجدان وتؤنس الأحبة والخلان.

فإن الحبَّ أوله مزاحٌ ... وآخرُه معانقة المنايا
[ رماد كان عطراً ]