أية أمة يزخر تاريخها بأخبار العشق والعاشقين، وجاشت أيامها بحكايا صرعى الحب وقتلى الهوى، فانتشر في ربوعها جنون الشوق والغرام، واستعرت في لياليها سَورة الوله والهيام، أية أمة ترى ذاقت كؤوس الصبابة أكثر من أمة العرب التي تزاحم فرسان الهوى في أرجائها، وتراكم شهداء العشق في بيدائها، فكانت حروب المستهامين على رأس كل سنان، وأشعار المغرمين تُغنى بكل لسان.
بعد أن قرأتُ ديوان الصبابة لابن أبي حجلة، ازددت يقينا بأن أمة العرب من أكثر الأمم عطفا في الجوانح، وأوسعها رقة في الفؤاد، وأفسحها لينا في القلب، فمن يجد لي أمة من الأمم دانت بدين الحب غير أمة العرب إذ قال قائلها:
الحب ديني فلا أبغي به بدلا ... والحسن منك مطاع جار أم عدلا
وقال غيره:
إنِّي أدينُ بدينِ الحبِّ ويحكمُ ... واللهُ قد قال: لا إكراهَ في الدَّينِ!
وقال آخر:
أدين بدين الحب أنى توجهَتْ ... ركائبُه أرسلتُ ديني وإيماني
فمن لي بأمة جعلت من الحب دينا؟ ونثرت في ربوعها العشقَ ورداً وياسمينا؟
ديوان الصبابة، لمؤلفه ابن أبي حجلة التلمساني الذي عاش في القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي، وهو أديب ومؤرخ ومصنف ولد في تلمسان بالجزائر وتوفي في القاهرة. يقع ديوان الصبابة في فصول عديدة، تحدث فيها عن الحب وأسبابه وهل هو اضطراري ام اختياري، وذكر مراتب الحب وأنواعه، كما ذكر سمات الحسن والجمال، وأخبار العشاق والمحبين، وأيضا ذكر ما أصاب المستهامين من جنون ومرض بل وأودى بهم عشقهم إلى الهلاك والموت، كما ذكر عن الحب عن طريق الصوت والصورة وهل يكون الحب من أول نظرة، كما أورد حكايا الشوق والعتاب والغيرة والوشاة وغيرها من قصص العشاق ونوادرهم.
في حقيقة الأمر أني لم أعرف يوما أمة تنطوي لغتها على أكثر من 16 نوعا أو اسما أو مرتبة للحب، فهناك الهوى ثم العلاقة ثم الكَلَف ثم العشق ثم الشغف ثم اللوعة واللعج ثم الجوى ثم التبْل ثم الدلَهُ ثم الهيام ثم الصبابة ثم الشوق ثم الغرام ثم الوله وهو ذهاب العقل من شدة الحب!
ومما أعجبني ذكر بعض الشيوخ الذين إذا قيل لهم ان ابنكم قد عشق تجدهم يحمدون الله، فإذا سُئلوا عن ذلك قالوا: من عشق رق قلبه، ولطُفت معانيه، وملُحت إشارته، وحسُنت عباراته، فواظب على المليح وترك القبيح. كان هذا حال الحب عند العرب لدرجة قال فيها شاعرهم:
وما الناسُ إلا العاشقون وذو الهوى ... ولا خير فمن لا يحب ويعشقُ
وأجدني يصعب علي أن أنتقي مقتطفات من مليح الشعر الذي يفيض به ديوان الصبابة، فكل بيت له جماله الذي يجعله يشرئب برأسه ويبأى بنفسه، فلا أملك إلا أن أقول بأن هذا الديوان يجب ألا يفوت أي أديب ولا ينبو عن يدي أي عاشق بسهم الغرام أصيب، ففيه من الحُسن ما يجعل الشمس كسيفة أمامه، وحوى من اللذة ما هو أشهى من سلاف المُدامة.
ورغم كل الملاحة المتأقة في هذا الديوان، إلا أن لدي ملاحظة حول ورود بعض الألفاظ الجنسية وبعض الكلمات الواصفة بعض مناطق الجسد المستورة –والحقيقة أني وجدت هذا المنحى في عدة كتب أدبية ومنها البيان والتبيين للجاحظ أيضا- ورغم أن ورود هذه الكلمات قليل ولا يؤثر في روعة الكتاب إلا أني أحبذ أن يبتعد الكتاب عن ذكر مثل هذه العبارات، فهي ألفاظ يمكن أن تقال بين الخاصة أو أولي القربى من أخلاء وأحباء، لا أن يتلفظ بها أمام العامة وأن يُخط بها في الكتب مهما كانت معروفة ومفهومة، فهي ألفاظ لا أحبذ جريانها على الألسنة أمام من هب ودب وولج وخرج، بل لها أوقاتها وأشخاصها المخصوصون بها، فلا ننسى أن الخط يبقى زماناً بعد كاتبه وصاحب الخط تحت الأرض مدفونُ، ولا تكتب بخطك غير شيءٍ يسرك في القيامة أن تراه.
وختاماً، أنصح بقراءة هذا الكتاب لمن له اطلاع بالأدب واللغة والشعر، وله عقل ناضج وقلب رحب، ففيه من الأشعار والأوصاف ما يَحسُن حفظها وتعلمها لترقق القلب وترطب اللسان وتدفئ الوجدان وتؤنس الأحبة والخلان.
فإن الحبَّ أوله مزاحٌ ... وآخرُه معانقة المنايا
[ رماد كان عطراً ]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق