وجهي .. في مرآة مهشمة ..!

صورتي
حيث تفنى كل نار
هيَ ذي الحياة ُرسائل ٌ.. فيها من الألم الجديد ْ.. العُمر خيل ُمراسل ٍ.. والحُزن ذاك هو البريد ْ..!

الخميس، 11 أغسطس 2011

البيان والتبيين ، جوهرة الجاحظ

من منا لا يعرف أحد أشهر أساطين الأدب والحكمة العربية، وحامل راية الثقافة العربية في العصر العباسي، الأديب والعلامة الأريب، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، ولستُ أنوي الإغراق في ذكر سيرة هذا الرمز العربي اللامع إذ إنه كالجبل المنيف غني عن التعريف.
لا يخفى على أحد أن الجاحظ كما هو أديب بليغ ولغوي فصيح، فإنه يعد من أرباب أهل الكلام ومن أعلام المعتزلة في القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي، وله فرقة تسمى باسمه، الجاحظية، ولسنا في حاجة للتوغل في هذا المسرب، فقضيتنا هي كتاب البيان والتبيين.

من المعلوم أن للجاحظ عدة مؤلفات شهيرة، كالحيوان والبخلاء والبرصان والعرجان والأمل والمأمول والرسائل وتهذيب الملوك وغيرها، وقد كتب الجاحظ في نواحٍ أكبر من أن تحصر، فله كتب في علم الكلام والسياسة وعلم النبات وفي الأخلاق وفي النساء وفي الصناعة وغيرها.

وبالرغم من وفرة انتاج هذا العلَم الشامخ، إلا أن كتاب البيان والتبيين قد طغت شهرته وعظمت سمعته، وكما قال ابن خلدون أن كتب الأدب أربعة؛ البيان والتبيين للجاحظ والكامل للمبرد والأمالي للقالي وأدب الكاتب لابن قتيبة، وباقي الكتب تبع لهذه.

تحدث الجاحظ في البيان والتبيين عن البيان والبلاغة وامتداح فصاحة اللسان، وتحدث أيضا عن العي والحمق واللحن، وتحدث عن العقل وعلو مكانته، وعن الخطابة والرسائل والوصايا، كما تحدث عن أخبار الحمقى والنوكى ونوادرهم وقصصهم، وتحدث أيضا عن النساك وقصصهم، وكان الجاحظ يستشهد في أحاديثه بالحكم والأمثال والشعر.

ومن أول ما استوقفني حسنُه، ذِكرُه عرفا من أعرف العرب بقوله: "من تمام الضيافة الطلاقة عند أول وهلة"، فالتبسم عند العرب عرف محمود وخلق مقصود.

ومما أعجبني من أقوال الجاحظ فيه: "اعلم حفظك الله أن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ؛ لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية، وممتدة إلى غير نهاية، وأسماء المعاني مقصورة معدودة، ومحصلة محدودة". وهذا يحطب في حبل موضوعٍ كنتُ أتحدث عنه منذ فترة وهو عن علاقة اللغة بالفكر، فكلما قويت اللغة وتمكن المتحدث منها، كان أكثر قدرة على التعبير عن فكره بصورة أوضح وبصيغة أدق، وهذا ينسحب أيضا على سلامة التفكير، فوفرة الألفاظ والمسميات في العقل تزيد من قدرة العقل على ربط المعاني وتحديدها.

ومما قاله أيضا: "للكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية، وما فضَلَ عن قدر الاحتمال دعا إلى الاستثقال والمَلَال"، وهو كلام بليغ ينصح فيه بعدم الإسهاب والإطناب في إيصال القصد والمراد، والأجدر أن تكون الرسالة واضحة المعنى بينة القصد، لا أن تكون طويلة السرد عصية على الفهم، وفي هذا نصح للكتاب والخطباء.

وتتضح هنا نظرية الجاحظ وتأييده للتوليد اللغوي، حيث يقول: "تجوز الألفاظ الجديدة في الكلام حين تعجز الأسماء عن اتساع المعاني"، فهو يقر بأن الألفاظ محدودة والمعاني لا نهاية لها.

ونجد أيضا دفاع الجاحظ الواضح عن البلاغة والفصاحة والكلام، وأكد على أن العرب لا تذم الكلام وتحبذ الصمت إلا إذا كان الحديث منصبا في الهذر والفحش والحمق والبذاء وفي الثرثرة.

ومن أجمل ما قرأت للجاحظ في هذا الكتاب قوله: "إن السكوت عن قول الحق في معنى النطق بالباطل"، وهي عبارة في منتهى الحكمة.

ويستمر الجاحظ في دفاعه عن الكلام فيقول: "وليس الصمتُ كله أفضل من الكلام كله، ولا الكلام كله أفضل من السكوت كله، بل قد علمنا أن عامة الكلام أفضل من عامة السكوت"، ويتابع: "وكيف يكون الصمتُ أنفعَ، والإيثارُ له أفضل، ونفعه لا يكاد يجاوز رأس صاحبه، ونفع الكلام يخص ويعم، والرواة لم ترو سكوت الصامتين، كما روت كلام الناطقين، وبالكلام أرسل الله أنبياءه لا بالصمت، ومواضع الصمت المحمودة قليلة، ومواضع الكلام المحمودة كثيرة، وطول الصمت يفسد اللسان".

وأقول إني وجدتُ كتاب البيان والتبيين كتاباً عميم النفع عظيم الفائدة وافر المعرفة واسع العلم، ينهل دارسه من اللغة والفصاحة والحكمة والأمثال والشعر الجزل ما يكون مؤونة للعقل وتثقيفا للسان وتهذيبا للنفس، ولا بد لكل قارئ أن يتدراسه أو يطلع عليه، وإلا فقد أضاع كنزا من بين يديه.

الجمال في هذا الكتاب مُتأق، ولكن سأختم هنا ببيتٍ قرأته فيه وكان له لدي معنىً واسع:
وللدهر أيام فكن في لباسها ... كلِبسته يوما أجدَّ وأخلقا
وكن أكيس الكَيْسى إذا كنتَ فيهمُ ... وإن كنتَ في الحمقى فكن أنتَ أحمقا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق