::
::
الــيــــوم: أربعة عشر ألماً
الأسبوع: واحد وأربعون جُرحاً
الـشــهـر: أكتوبر الأسى
الــســنـة: الحادية عشرة بعد ألفي منفى
[ عامٌ على الموتِ المدفون في أضلعي ]
قبل عامٍ من الآن، لم أكن أدرك أن الشمس التي تغيب، لن تكون الشمسَ التي تشرق، ولم أكن أعي أني على موعدٍ مباغتٍ مع الموت، في الوقت الذي كنتُ فيه معتكفا في محرابِ الأمنيات، أتلو على الحب الصلوات، في الوقت الذي كنتُ فيه أتحرق شوقاً لغدٍ أوسد فيه حبيباً أضلعي، وأفجر في عينيه كل الحنين المأسور في أنفاسي، وأطوقه بيدي تطويق حلقات السلاسل، خشية أن أفقده برهة من عمر!
لم أكن أعرف حينها، أن الموتَ يأتي في الوقت الذي نشعر فيه أننا على الحياة أقدر، لم أكن أعرف أن الدعوات التي نلح فيها ونصر عليها تكون عرضة للاغتيال أكثر! لم أكن أعرف أني حين كنتُ أتشبث بأرجل السماء أستجدي حُلما وحباً، قد كان آنذاك قبري يُحفر!
أذكرُ جداً كيف استعجل الشتاء موسمه من بعد عناقنا الأخير، ودفء كفيه الموشوم في صدري أنساني اقتناء معطف يقيني جليداً يوشك أن يلقي صقيعه في كبدي، وأنا الذي كنتُ قد بعت ملابسي منذ اتخذت جفنيه لباساً، ومحوتُ من دفاتر تاريخي كل الوجوه والأسماء مذ غدا وجهه إنجيل ذاكرتي واسمه تراتيل صلاتي، وصممت عن كل مزامير الحناجر وأنغام الألسن يوم استحال صوته أنشودة قلبي ونبض شراييني.. أذكر جداً، أني نسيتُ كل تعليمي وفهمي، يوم طلب مني رسم خريطة الكون، فرسمتُ في صفحتي عينيه!
في صباح الخامس عشر من أكتوبر، صحوتُ من نومي في وقتٍ على غير عادة، أتراه من جراء تضخم الحنين الذي خنق أنفاسي؟ أم أن السماء كانت تشفق على نائم مثلي توسد حلمه ليلا ليفيق على موته نهارا، فأيقظتني في حين غرة .. على كفني!
أذكر جدا، كيف كان انقطاع الاتصال، يقطع أوصالي، أذكر جدا، كيف شعرتُ بفؤادي يتفجر في جوفي، وتتشقق رئتاي وكأن الهواء شرع ينفد كما الوقت، أذكر جدا أني انقطعتُ عن الوعي، وتجمد الاحساس في أوردتي، وسقطتُ مُدلها لا أدري أيهما تداركني أسرع، الصراخ أم البكاء!
مازلتُ إلى الآن غير قادرٍ على سرد ذكرى الموت تلك، فكلما توغلتُ في الادكار أجد فرائصي ترتعد أكثر، وأصابعي ترتعش أكثر أكثر، أهو الجرح مازال ينزف لم يترفق به الإبلال، أم هي طعنة الموت لم ينتزع خنجرها بعدُ من صدري!
أذكر جداً، كم كنتُ أحبك، كم صد عشقي لعينيك الموتَ عن عيني، وكيف اتخذتُ من وجهك مجنأ وترسا يقيني نبالا مسننة نحو فؤادي مسددة، وكيف جعلتُ من عطرك دواءً أستطب به فأريقه على جسدي ليخمد سورة الحمى التي لازمتني منذها وإلى الآن!
لم أكن أصدق، أن وجهاً كوجهك، يمكن أن يتخطفه القدر من بين أصابعي، لم أكن أصدق، أن عينيك اختارتا أن تبصرا صبحاً لا يكون في قسماته وجهي، لم أكن أصدق، أن توصد أبوابك على روحي التي سميتها باسمك، وخضبتها برائحتك، وألبستها شفتيك، وأنا الذي بقيتُ أطرق جدران صمتك بصوت من أنين، وأذرفك شوقاً في أدمعي التي كسرت ضلع السماء من وجع الحنين!
كنتُ أراكَ روحاً وحدها خلقها الله من فردوسه، وكذبتُ فيك كل نبوءات السماء، وأبقيتُ حبك قرآنا أتلوه في محراب حزني كل ليلة، وجعلتُ الوفاء لك زاداً لأيامي، علك يوماً تتذكر وجهي، فتحملك خرائط الشوق إلى أضلعي، فطالت الأيام، وازدادت الليالي عتمة .. فاشتد لهيب احتراقي فيك، وامتد طريق غيابك بك!
إلا أنت .. لن تكسرني، تلك كانت عقيدة حبي لك، فكيف أعدت إليَّ قلبي من يديك به انكسار؟!
قد يمنعني التشظي من مواصلة إراقة الحبر الآن، فللعينين حبرٌ آخر .. يوشك أن يُراق!
::
::
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق