وجهي .. في مرآة مهشمة ..!

صورتي
حيث تفنى كل نار
هيَ ذي الحياة ُرسائل ٌ.. فيها من الألم الجديد ْ.. العُمر خيل ُمراسل ٍ.. والحُزن ذاك هو البريد ْ..!

الأحد، 23 ديسمبر 2012

أفول في الذاكرة ..!

::
::
،

الحُزن يُـقلقُ والتجملُ يردعُ
والدمعُ بينهما عَصِـيٌّ طـيِّـعُ

يتنازعان دموعَ عين مُسهّدٍ
هذا يجيء بها، وهذا يرجعُ

[ المتنبي ]
.

هو الدهرُ، دولته سجال، تكر صروفه، وتتناوب ظروفه، يتقلب في عباءته الجديدان، ولا يسْمدِرُّ له حال ولا شان، فلا أُنسٌ يدومُ ولا شقاء، ولا بؤسٌ كذلك أو رخاءُ.

ما إن عقت الروح تميمتها، وشبت النفسُ عن طوقها، حتى باغتتها الأيام بأسنتها الذَرِبة، ونصالها الذَلِقة، كإزميلٍ يفري الأديم، ويذر العظام كالرميم، والأسى يعصب الأفواه، ويُذبل الشفاه، ممزقاً خيوط الفجر على قلبٍ يُوارى مثواه.

لم أكن إخال أن تعركني الليالي عرك الرحى بثفالها، وتصليني ناراً تلظى في مستهل الميلاد الأخير، رغم أني قد نضدت روحي على أعتى ألم، ورضَّمتُ أضلعي في أوار جمرٍ وحِمم، ولكن هي طبائع الأيام، ونحائز الأعوام، تغتالك حين غرة، وتباغتك فجاءةً مكفهرة، كأنها عِقبانٌ تقع على صرعى معارك العمر، فيخرمهم منسرها، وينشب في أشلائهم مقطمها، حتى لا يبقى في العين بصيص، ولا في الروح نسيس.

إن الدواهي في الآفات ترتهس، والمصائب لا تأتي فرادى.




الانكسار، هو جزاء عصيان الوصايا، تلك التي حاضرني بها شيخ الحزن في عِرنين الجبل على سفح ذاك البرج، ذات يومٍ شاتٍ، فبأي وجهٍ ألوذ إليه، حين انفض عني ضماد الجرح، وأنا مازلتُ أنزف! سأخبئ جراحي هذه المرة، وسأبدو حازماً متماسكاً، رغم أن العين تشي بما يكتمُ الصدرُ.

لا بأس ولا يأس، فأنا أظل الحُزن المتجسد في صورة بشر، ولن يغير هذا الجسم الضيق من أكون، ومهما ناءت السماء بكلكلها وشاحت عني بوجهها، فلن تتمكن من نسيان ضلعها المفقود، ذاك الذي هوى كشهابٍ ساعة عتمة، فاتخذ وجها واسما كالبشر، وضاع في زحامهم، ستظل تلك المضغة المجتثة من ثبجها تقضها بالوجع، حتى تنقضي فترة الحكم علي بالشتات والغربة في هذا العالم البائس، وأعود إلى حيث أنتمي .. يوماً ليس ببعيد على المترقب.

فيا شيخ الحزن، لا توصد علي مأواك حين ألقاك، والتمس لي عذر موسى النبي، يوم كُسرت جرة صبره على تعاليم الرجل الصالح، أنا فقظ لم أستطع أن أمعن في القسوة كما طلبت، ولا إخالك ذاهلاً عن إرث السماء الذي ما انفك يموج في أوردتي، إرثُ الشدة في غير عنف، واللين في غير ضغف، ولكنك كنتَ صادقاً في وصاياك، لقد عصيتُك حين ألقيتُ من يدي أسلحتي وخلعتُ عني ترسي ودروعي، وأذنتُ لسهام الذاكرة أن تتمرغ في صدري، فانهل علي الألم كغمام ساجم سد كل مسارب الأفق، ربما أردتُ اختبار روحي الأخيرة، وفحص صلابتها، ومحص متانتها، وهل مازالت تئن لسُؤر الماضي وبقايا رفاته، إلا أن الجائحة كانت عاتية، وكادت أن تجعلني أثراً بعد عين، لولا أن ثبت وجلدت ورسخت كراية موكوزة في جبلٍ أشم.

يا شيخ الحزن، اعتدت على الطعنات حتى ما بقي في هذا الجسد شبر إلا به ندبة خنجر ورأس حربة وصدرُ قناة، ولكن لا تخشَ علي، فأنا مازلتُ واقفاً على قدمي، ثابت الهامة، راسخ الهمة، قوي الشكيمة، ماضي العزيمة، مرفوع الجبين، مهما تخضبتُ بالأرجوان.

يا شيخ الحزن، أتصدق أنهم ما فتئوا يوهمونني بالحنين؟ أجل الحنين! بعد مضي دهرٍ من النسيان المكفن بالموت! ذاك الحنين الذي يغفو حولاً كريتاً، ويصحو كالسراب، في لحظة فارطة من حساب العمر، لم تكن في عمدة الروح، ولا في خارطة سير الأقدام، ذاك الحنين الذي لا يجاوز طرف اللسان، الحنين الذي أضحى مجرد مستحضر لترقيع الوجوه المشوهة في الذاكرة، الحنين الذي لم يترك غير نشيجٍ .. وأنين!

إن بيع الحنين في غير سوقه، يجعل منه بضاعة مزجاة! أليس هذا ما علمتني إياه يا شيخ الحزن؟ من كان يستطيع الصبر عنك لأيام، يستطيع الاستغناء عنك لأعوام. يتذكرونك، بعد أن قذفوا بك من أكفهم في مهاوي الردى وأتون الأسى، وشغلتهم الحياة بلذاتها ومتعها، بعد أن أينعت أمانيهم عن ثمر لا يشبه وجهك، ولا يحمل اسمك، جاؤوا يترنمون بالذكرى كقرابين تشفع لهم كل ما اقترفوه من جراح!

يا شيخ الحزن، لقد بترت أضلعي المكسورة من أرومتها، وجذذتُ ما يصلني بهم من آصرة، لذلك لستُ بحاجة للتضميد، لستُ بحاجة لإيهامي بالحب والشوق والحنين .. تلك الكلمات التي لم تعد تحمل حجماً أكبر من محض ألفاظها، لستُ بحاجة لإيهامي بأني كنتُ ذا ثمنٍ في عيني أحدهم، لستُ بحاجة لإيهامي بأني عالقٌ في البال غدوا ورواحاً وبالبكور والآصال، صدقوني، لم يعد يهمني كل ذلك، ولم أعد أحب سماع ذلك، لأنه بكل بساطة، لم تعد له قيمة في قسطاس الروح، تلك الروح التي تحطمت كزجاجٍ لا يُرأب صدعه!

سأنسحب بهدوء، دون نشيج، دون ضجيج، دون استئذان، سأتلاشى كنجمٍ تلتهمه العتمة، دون حس أو ركز، سأدعهم يموجون في العالم الذي اختاروه، والدرب الذي سلكوه، علهم يهنأون بالغضارة والرفأنينة التي احتسبوها بعيداً عن وجهي، وليغفروا لي موتي، وأنا أودع في أعينهم ابتسامتي الأخيرة، ابتسامة عاشقٍ جمع جراحه وقلبه المحطوم في صرة، ومضى بعيداً دون أن يودع أحداً أو يذري بأنامله دمع الرحيل، بعيدأً جداً، حيث لا عودة أو قفول.



فـمــا بــال قـلـبـي هــده الشــوق والهـوى
وهــذا قميصــي مــن جــوى الحزن باليـا

خـلـيـلـيَّ قــد حـانــت وفــاتــيَ فــاطــلــبـا
لــيَ الــنــعـــشَ والأكفـانَ واستغـفرا ليا

وخُــطَّـــا بأطـــراف الأســنـــة مضجـعي
وردا عــلــى عــيــنــيَّ فــضــل ردائــيــا

ولا تــحســدانـــي بــــارك الله فـيـكــمــا
من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا

وإن مـــت مــــن داء الصـبــابـة أبلـغـا
شـبـيـهـة ضــوء الشمسِ مني سلاميا

[ المجنون ]

،

::
::

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق