::
::
فرغتُ اليومَ من قراءة كتاب [ العقلانية ، فلسفة متجددة ] للكاتب الإنجليزي [ جون كوتنجهام ]، الكتاب يقع في عدة فصول معروضة في قرابة 170 صفحة، تحدث فيها كوتنجهام عن بدايات العقلانية الغربية في الفلسفة اليونانية، ثم انبلاج صبحها في عصر النهضة الأوروبية وعلى يدي أبي الفلسفة الغربية الحديثة، الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، مرورا بالفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا والألماني لايبنتز وإيمانويل كانت وجورج هيجل ثم انتقالا إلى العقلانية الحديثة وترابطها بمجال الدراسات اللسانية عند الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي.
وخليق بالقارئ أن يميز بين العقلانية كأسلوب فكري وبين المذهب العقلي، فالعقلانية هي استخدام العقل في كافة تصاريف الحياة كمبدأ وقاعدة انطلاق وتمييز، ولكن المذهب العقلي يختلف عن العقلانية من حيث إنه يقوم على أساس زعم وجود معرفة قبلية [ فطرية ] في العقل البشري سابقة على التجربة والحواس، ولذلك فإن المذهب التجريبي يضاد المذهب العقلي، إذ ينفي التجريبيون وجود معرفة قبلية أو فطرية في العقل البشري بل إن المعرفة تنتجها التجربة والحواس، فالتجريبيون عقلانيون من حيث أسلوب التفكير ولكنهم أعداء للمذهب العقلي، وقد شهدت أوروبا صراعا شديدا بين مذهبي العقل والتجربة، وخصوصا بين مفكري إنجلترا التجريبيين ومفكري فرنسا وألمانيا العقليين، وقد تمكن المذهب التجريبي من التفوق على المذهب العقلي في القرون الأخيرة لولا أن الفلاسفة العقليين دافعوا باستماتة عن معتقداتهم بوجود معرفة فطرية سابقة للحواس، ورغم سطوة المذهب التجريبي إلا أن العقليين عادوا في القرن الحديث يواجهون التجريبية ولاسيما اعتماد نظرية النحو التوليدي واللغة العالمية لنعوم تشومسكي في القرن العشرين التي تزعم بوجود مركب فطري لمبادئ اللغة في العقل البشري قبل أن يتعلم المرء اللغة.
إذن فالصراع بين العقليين والتجريبيين مستمر، رغم محاولة كثير من الفلاسفة العقليين الدفاع عن مبدأ الفطرية أمام سهام النقد العنيف التي وجهها لهم التجريبيون وخصوصا جون لوك وديفيد هيوم، وها هو [إيمانيول كانت] يحاول الدفاع عن أبراج المذهب العقلي المنهارة فاجتهد في التوفيق بين العقل والتجربة ليخلُصَ إلى أن المعرفة هي اتحاد بين العقل والحواس، فيقول: "لا يمكن لقدراتنا العقلية والحسية أن توفر الأحكام الصحيحة موضوعيا بشأن الأشياء إلا باتحاد بعضها من بعض".
الكتاب يحوي بعض المقاطع المشوقة، إلا أنه في مجمله لا يشجع على مواصلة قراءته وذلك طبيعي بحكم أنه من الصعب جدا اختزال الصراع العقلي - التجريبي في 170 صفحة، ولذلك قد يجد القارئ بعض الصعوبة في فهم ما يحويه النص وما ترمي إليه أقوال الفلاسفة من كلا الطرفين.
من الاقوال التي دونتها في مذكرتي لهذا الكتاب، قول أرسطو: "لا يوجد في العقل ما لم يكن في الحواس من قبل"، وهو قول يدعم التجريبية وضد العقلية لأول وهلة، ولكن كتاباته الأخرى تشير إلى اعتقاده بأن الحواس لا يمكن أن تؤدي وظيفتها ما لم يكن هناك استعداد ذهني مسبق.
وقول ديكارت عن صدمته بالأكاذيب التي كان يعتقد في طفولته بأنها حقائق، وأنه اضطر إلى هدم كل أفكاره وبنائها من جديد.
وقول باروخ سبينوزا أن الناس يعتقدون أنهم أحرار لأنهم يشعرون بأفعالهم لا بالأسباب التي تتحدد بها أفعالهم.
وتفريق لايبنتز بين حقائق العقل وحقائق الواقع؛ فحقائق العقل ضرورية ونقيضها محال، وحقائق الواقع محتملة ونقيضها ممكن.
وقد حاول لايبنتز الرد على نقد جون لوك للمبدأ الفطري في المذهب العقلي وقال بأن الحواس تعمل كمثيرات للمعرفة القبلية، وأضاف إلى مقولة أرسطو الشهيرة: "لا يوجد في العقل ما لم يكن موجودا في الحواس من قبل" عبارة: "إلا العقل نفسه".
ونجد قول جون لوك وهو من أرباب المذهب التجريبي أن "الإنسان يولد لوحا أملساً" أو صفحة بيضاء وأنه يستمد المعرفة من التجربة.
كما حط ديفيد هيوم من شأن العقل وقال بأنه "عبدٌ للعواطف"، وهذا يشير إلى تطرف هيوم في نقد المذهب العقلي كما هو معروف عنه بأنه شيخ الشكاكين، حيث رد على مبدأ [ الدوبيتو ] لدى ديكارت القائل: "أنا أشك إذن أنا موجود"، قائلا: "أنا أشك بأني أشك".
وينتقد أحد الفلاسفة المحدثين العلم الغربي وهو بول فيرديناند بقوله: "إن العلم الغربي ليس إلا آيديولوجيا مهيمنة، إنه تقليد من التقاليد الكثيرة، وليس له حق خاص في المطالبة بقبولنا له"، ويضيف: "على المرء أن يقرأ الآيديولوجيات كما يقرأ الحكايات العجيبة التي لديها أشياء مشوقة تقولها ولكنها تحتوي على الأكاذيب الفظيعة أيضا".
هذه إلماعة عن هذا الكتاب اختزلناها في هذه المقتطفات، ولأكون صريحا فأنا لا أثير حماسة القارئ لقراءة هذا الكتاب إلا إذا كان من أصحاب الاختصاص أو باحثا في مسائل المذهب العقلي وتطوره، فهو ليس ممتعاً ولا مفيداً بما يكفي لأجعله من كتب سطح الطاولة.
وأختم بمقولة الفيلسوف لودويج فنجشتاين إذ يقول: "ما لا يمكن التحدث عنه يجب إهماله في صمت".
::
::